المشاركات المكتوبة بواسطة mohamad issa

صورة mohamad issa
بواسطة الخميس، 30 كانون الثاني 2025، 7:36 - mohamad issa
أي شخص بالعالم


دقائق الليل الغالية

د. محمد أحمد الراشد

https://hekmahyemanya.com/%d8%aa%d8%b2%d9%83%d9%8a%d8%a9/%d8%af%d9%82%d8%a7%d8%a6%d9%82-%d8%a7%d9%84%d9%84%d9%8a%d9%84-%d8%a7%d9%84%d8%ba%d8%a7%d9%84%d9%8a%d8%a9/

 

سجود المحراب ، واستغفار الأسحار ، ودموع المناجاة, وقيام دقائق الليل الغالية : سيماء يحتكرها المؤمنون .

ولئن توهم الدنيوي جناته في الدينار ، والنساء ، والقصر المنيف ، فإن :

جنة المؤمن في محرابه (1)

ولقد منَّ الله على الناس بكثير من المباح الحلال يفند الرهبانية ، ولكن المؤمن له لذة كلما توجه إلى ربه بصفاء روح ، تتضاءل بجانبها لذة المباح ، فيهجر الكثير منه حذراً من كدر يعكر الصفاء الذي هو فيه .

جرب ذلك المؤمنون قديماً ، زمن العيش البسيط ، وجربه المؤمنون اليوم ، زمن المدنية المعقدة .

بل إن الصلاة في يوم هذه المدينة لأظهر في إضفائها السرور ، فبينما يطيل التعقيد على الإنسان حياته الحاضرة ، فيسأم ، ويمل ، و يضجر ، تختصرها الصلاة إلى بضع ساعات فحسب ، فيعيش في اطمئنان ، وراحة بال ، ولئن كان لنظرية آينشتاين في نسبية الوقت نصيب من الصحة ، فإن في الصلاة هذا النصيب ، كما يشرحه مصطفى صادق الرفاعي و يقول :

” يا لها حكمة أن فرض الله علينا هذه الصلوات بين ساعات وساعات ، لتبقى الروح أبداً إما متصلة أو مهيأة لتتصل ، ولن يعجز أضعف الناس مع روح الدين أن يملك نفسه أنه متوجه بعدها إلى ربه ، فخاف أن يقف بين يديه مخطئاً أو آثماً ، ثم هو إذا ملك نفسه إلى هذه الفريضة ذكر أن بعدها الفريضة الأخرى ، وأنها بضع ساعات كذلك، فلا يزال من عزيمة النفس و طهارتها في عمر على صيغة واحدة لا يتبدل ولا يتغير ، كأنه بجملته – مهما طال – عمل بضع ساعات “(2)

فطول الحياة نسبي.

هو طويل جداّ ، مخيف مظلم للجاهلي.

وهو قصير ، هين منير للمصلي.

وحياة الجاهلي ركود مستمر.

وحياة المصلي حركة ، تزيد صواباً ، أو تستدرك اعوجاجاً .

وإنها ( الله أكبر ) تنهي هذا الركود ، وتؤسس الحركة ( الله أكبر ) .

بين ساعات وساعات من اليوم ترسل الحياة في هذه الكلمة نداءها تهتف :

” أيها المؤمن : إن كنت أصبت في الساعات التي مضت ، فاجتهد للساعات التي تتلو . وإن كنت أخطأت فكفّر ، وامح ساعة بساعة “(3)

وأظهر حركة يولدها التكبير : حركة التمييز والفرقان ، بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان .

فإنك إن قلت : { اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }.

استشعرت في كل ركعة طائفة من هذه الأصناف الثلاثة ، وتخصص كل ركعة لمن ظهر منهم في زمن واحد ، أو بلد واحد ، فتجول في ركعات يومك بلاد الإسلام أجمع، وتستعرض تاريخ الإسلام أجمع .

ففي ركعة تذكر النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الأطهار رضي الله عنهم مثلاً لمن أنعم الله عليهم ، وتذكر أبا جهل ومسيلمة مثلاً للمغضوب عليهم والضالين .

وفي ركعة أخرى تذكر هوداً وصالحاً – عليهم السلام – مثلاً ممن أنعم الله عليهم ، وعاداً وثمود من الهالكين .

وفي ركعة أخرى تذكر الحسن البصري وابن سيرين و ابن المسيب ممن أنعم الله عليهم ، وأهل الردة ، والجهم بن صفوان ، والجعد بن درهم من المتخبطين .

وفي أخرى تذكر ابن تيمية وابن القيم وابن الجوزي من المصلحين ، وأصحاب وحدة الوجود والفناء الموهوم و الشطح والابتداع من المدلسين .

وفي أخرى تذكر الإمام البنا وعودة وسيد ، وثباتهم أمام الطغاة المتجبرين .

وبذلك تعقل صلاتك ، والمرء ليس له من صلاته إلا ما عقل منها ، و تجدد عهدك مع أجيال المؤمنين ، وتنبذ المفسدين ، وتلك هي حركة الإيمان ، فإن الإيمان الحق ما أخذ منك الولاء ، وتركك على المفاصلة .

رجال مدرسة الليل

ولكن تمام التذكر يكون مع الهدوء والسكون .

فمن ثم كانت مدرسة الليل .

وكان ترغيب الله للمؤمنين أن يجددوا سمت الذين {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون * وبالأسحار هم يستغفرون}

وإذا انتصف الليل ، في القرون الأولى ، كانت أصوات المؤذنين ترتفع تنادي :

يارجال الليل جدوا

رب صوت لا يرد

ما يقوم الليل إلا

من له عزم وجِدُّ

وإنها حقاً لمدرسة ، فيها وحدها يستطيع رجالها أن يذكوا شعلة حماستهم ، وينشروا النور في الأرجاء التي لفتها ظلمات الجاهلية .

وإنها تجربة إقبال يوجزها فيقول :

نائح والليل ساج سادل

يهجع الناس ودمعي هاطل

تصطلي روحي بحزن وألم

ورد ( يا قوم ) أنسي في الظلم

أنا كالشمع دموعي غسلي

في ظلام الليل أذكي شعلي

محفل الناس بنوري يشرق

أنشر النور ونفسي أحرق (4)

وإن دعوة الإسلام اليوم لا تعتلي حتى يذكي دعاتها شعلهم بليل ، ولا تشرق أنوارها فتبدد ظلمات جاهلية القرن العشرين مالم تلهج بـ( يا قيوم ) .

ما نقول هذا أول مرة ، وإنما هي وصية الإمام البنا حين خاطب الدعاة فقال:

” دقائق الليل غالية ، فلا ترخصوها بالغفلة “ (5)

أفعيينا أن نعيد السمت الأول ، أم غرنا اجتهاد في التساهل و التسيب و الكسل جديد ؟

إن القول لدى الله لا يبدل ، ولكنا أرخصنا الدقائق الغالية بالغفلة ، فثقل المغرم ولم يجعل الله لنا من أمرنا يسراً .

إن انتصار الدعوة لا يكمن في كثرة الرق المنشور ، بل برجعة نصوح إلى العرف الأول ، ومتى ما صفت القلوب بتوبة ، و وعت هذا الكلام أذن واعية : كانت تحلة الورطة الحاضرة التي سببتها الغفلة المتواصلة .

ذلك شرط لا بد منه .

وكأن النصر حجب عنا لأننا نادينا من وراء الحجرات ، وجهرنا رافعين أصواتنا نوجب على الله لنا هذا النصر بادلال ، نبيعه و نثبت لنا حقاً عاجلاً في الثمن من دون أن نقدم بين يدي بيعنا همساً في الأسحار ، ولا الدمع المدرار ، وإنما النصر هبة محضة ، يقر الله بها عين من يشاء من رجال مدرسة الليل في الحياة الدنيا ، ولا يلت الآخرين المحصرين من ثمنهم في الآخرة شيئاً ، ويوقع أجرهم عليه .

إن تعلم الإخلاص ، وفضح الأمل الكاذب الدنيوي أجلى أعطيات مدرسة الليل ، كما يقول وليد ، وذلك ما توجب تربيتنا تركيزه وتعميقه في النفوس .قال ، والحق ما قال :

ياليل قيامك مدرسة

فيها القرآن يدرسني

معنى الإخلاص فألزمه

نهجاً بالجنة يجلسني

ويبصرني كيف الدنيا

بالأمل الكاذب تغمسني

مثل الحرباء تلونها

بالإثم تحاول تطمسنى

فأباعدها و أعاندها

وأراقبها تتهجسني

فأشد القلب بخالقه

والذكر الدائم يحرسني (6)

وأكثر من هذا فإن من يتخرج في مدرسة الليل يؤثر في الأجيال التي بعده إلى ما شاء الله ، والمتخلف عنها يابس قاس تقسو قلوب الناظرين إليه، والدليل عند بشر بن الحارث الحافي منذ القديم ، شاهده وأرشدك إليه, فقال :

” بحسبك أن قوماً موتى تحيا القلوب بذكرهم ، وأن قوماً أحياء تقسو القلوب برؤيتهم ” .

فلم كان ذلك أن لم يكن ليل الأولين يقظة ، وليل غيرهم نوماً ؟ ونهار الأولين جداً ، ونهار الآخرين شهوة

أتسبقك الحمامة ؟

وإنه لقلب رقيق قلب الفقيه الزاهد أبي سهل الصعلوكي ، يظهره تأنيبه لنفسه في قوله :

أنام على سهو و تبكي الحمائم

وليس لها جرم ومني الجرائم

كذبت لعمرو الله لو كنت عاقلاً

لما سبقتني بالبكاء الحمائم (7)

فإن الذنب لا يغسل إلا بدمع ، والشجاعة تسقى بدموع الليل ، وما عرف تاريخ الإسلام رجاله إلا كذلك ، ولم يقل ابن القيم باطلاً في وصفه لهم بأنهم :

يحيون ليلهم بطاعة ربهم

بتلاوة ، وتضرع و سؤال

وعيونهم تجري بفيض دموعهم

مثل انهمال الوابل الهطال

في الليل رهبان ، وعند جهادهم

لعدوهم من أشجع الأبطال

بوجوههم أثر السجود لربهم

وبها أشعة نوره المتلالي (8)

وسَأَلَ عبد الوهاب عزام الليلَ عن أروع أسراره ، فأبان جوابه عن إصابة المؤمنين والمذنبين في تحريهم إياه واستمع لتحاورهما:

قلت لليل: كم بصدرك سر

أنبئني ما أروع الأسرار ؟

قال: ما ضاء في ظلامي سر

كدموع المنيب في الأسحار(9)

أفترى المؤمنين إلا مصدق بجواب الليل ، فهو مسارع مستبق ؟

أم ترى أهل البلاغة إلا في إذاعة لما قال ؟ يستملون الناس :

فاز من سبح والناس هجوع

يدفن الرغبة ما بين الضلوع

ويغشيه سكون وخشوع

ذاكراً لله والدمع هموع

سوف يغدو ذلك الدمع شموع

لتضيء الدرب يوم المحشر

سجدة لله عند السَحَر(10)

ويلقنون المذنبين المخطئين طريق الجنة ، فيستملون المسرف في أخرى أن :

عد إلى الله بقلب خاشع

وادعه ليلاً بطرف دامع

يتولاك بعفو واسع

ويبدل كل تلك السيئات

حسنات أجرها لن ينفدا

كل هذا العفو للعبد المنيب

سابغا من خالق الكون الرحيب

للذي تاب إليه من قريب (11)

 

 


[ تم التعديل: الخميس، 30 كانون الثاني 2025، 7:45 ]