مدونة الموقع

أي شخص بالعالم


تركيز لا تكاثر ..التوازن الدعوي في تحقيق الكم والكيف

محمد احمد الراشد

الرابط الأصلي للمقالة

كان في تدقيق الانتقاء ما يعصم من قواصم العفوية. وتَكْمُن العاصمة الثانية في تجميع متناسب مع جهود المربين، بحيث يمكن إسماعهم جميعًا الكلام الموجَّه، بتركيز مؤثر، ومنع التأثيرات الخارجية عنهم.

ولا شك في صعوبة هذا الحل الثاني.

ويقصد بالصعوبة: صعوبة (السيطرة) على الرغبات النفسية الأصيلة في كل إنسان في حب (الثراء) في كل شيء مما أشار إليها القرآن الكريم بإجمال في قوله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر: 1].

فالإنسان يحب الثراء الكمي العددي، في المال، والعلوم، والبنين، والأنصار، وفي كل شيء، وهي نزعة أو غريزة لا يمكن السيطرة عليها إلا بالتربية العميقة، وخطورة إهمالها تتأتى من أن إشباع الغريزة يؤدي إلى حصول (النشوة) في الإنسان، والنشوة حالة من حالات النفس الإنسانية تؤثر على العقل تأثيرًا سلبيًا، فتجعله في ركود.

إن النشوة ضد الخوف، وفي النفس الإنسانية يقترن الاطمئنان مع النشوة، والحذر مع الخوف.

والمعروف أن العقل أقصى ما يمكن تحفزًا واشتغالاً وشحذًا في حالة الحذر.

ومن هنا تصاحب النشوة اندفاعات غير مدروسة، يشترك فيها الجميع، القادة وتلاميذهم، لأن الإحساس بالثراء يولد الاطمئنان وإيحاءات الضمان.

معارك النفس:

إن هذا التقرير يؤكد ما قلناه من صعوبة الحركة التي تخوضها الدعوة، فإن ميدان المعركة هو النفس الإنسانية بكل تعقيداتها ومتناقضاتها.

أنت لا تتعامل مع أحجار صلدة، ولا مع أصحاب طهر ملائكي.

أنت تعيش وتتعامل مع نفس إنسانية، فيها الغرائز، غرائز حب البقاء، وحب التكاثر والثراء، وإشباع الشهوات الجنسية، وفيها النزعات: نزعات الثأر، والحذر، والدفاع عن عقيدتها، وحب شيوعها.

والمجتمع الذي أمامك هو مجموعة هذه الغرائز والنزعات والميول والرغبات، فإن لم تعرف المداخل والأبواب التي تدخل منها إلى هذا المجموع من الغرائز والنزعات المسمى بـ(المجتمع) فان الفشل يصيبك حتما، وإذا غالطت نفسك وتجاهلت هذه الغرائز والنزعات والميول والرغبات، فلن ضير وجودها شيء، وأنت تضار.

ستبقى هي لأنها وُجدت -بإذن الله- لتبقى، أما أنت فستزول وتخونك حساباتك وتقديراتك لأنك خالفت الفطرة.

إن النفس الإنسانية هي ميدان كل هذه الانقلابات الاجتماعية والسياسية الكثيرة المتواصلة التي يحدثنا عنها التاريخ القديم والحديث.

اندفاع وراء إشباع البطون، أو إشباع الشهوة الجنسية، أو طلب الترف.. اندفاع ثأر ممن سلبها أرضها أو نساءها.. اندفاع وراء إشباع عقيدة اعتقدتها، أو محاربة من يخالف هذه العقيدة، بالمفهوم الواسع للعقيدة، من مثل وقيم، حقة أو باطلة.

إنها اندفاعات مادية ومعنوية، قد تجتمع وقد تنفرد. هؤلاء هم البشر.

إن بعضهم قد وجد في نفسه المقدرة على توجيه الآخرين نحو قسم من هذه التصرفات التي تساعد عليها الغرائز والفطر، فسمينا عمله هذا (تربية).

إن معارك السياسة والحروب صورة لمعارك النفس.

ألهاكم التكاثر بالأمس، فاتزنوا:

وإذن فإن معركتنا معركة تربوية، أي أنها تقوى وتشتد كلما تعمقت التربية وأتقن المربي عمله، وتخبو جذوتها كلما فترت التربية وكانت سطحية.

أي إن الجهود التربوية لعدد محدود من القادة المربين إذا تركزت على التلاميذ فإنها تكون أعمق تأثيرًا فيهم كلما قل عددهم، بتناسب طردي، وتفتر ويقل تأثيرها كلما زاد عددهم.

ومع هبوط كمية التأثير يحصل الاندفاع العفوي غير الهادف، ثم القاصمة والمصرع.

وإذن فإن من مصالح معركتنا ألا يندفع الصنف القيادي المتولي لعملية التربية في تجميع عدد من التلاميذ أكبر مما تكفي له جهودهم التربوية.

وهذا هو الحل الثاني للوقاية من مصارع العفوية يمليه تحليل الظاهرة التربوية.

ولقد شهد تاريخ الحركة الإسلامية بالأمس القريب تكاثرًا بالعدد على حساب النوعية أرهق وألهى، وأجبر دعاة اليوم على الاتعاظ، وما اتزان التوسع إلا وصية الغد. نقول: إنها وصية الغد؛ لما رأينا من نسيانها.

والحقيقة إن أهمية الصف الداخلي المتين لا تنحصر في معطيات صفته التنظيمية وسهولة استغلال طاقاته المنسقة، بل في تحقيقه (المجتمع التربوي) الذي يحتضن الجديد المتربي ويريه زيادة المناظر الإسلامية ويحجب عنه رؤية الجاهلية والجاهليين وسماع أقوالهم، فيبعد عن التأثر بتربية أخرى غير إسلامية، ولمثل هذا أوجب الغزالي -رحمه الله- المسارعة إلى كبت الفسق وحجبه لئلا يؤثر منظره في نفوس المسلمين، وقال: "إن مشاهدة الفسق تهون أمر المعصية على القلب، وتبطل نفرة القلب عنها". [إحياء علوم الدين للغزالي (2/172)].

وهذا يعني أيضًا أن بقاء بعض الفسق بمعناه الشرعي عالقًا بالأشخاص الذين نجمعهم، لِعجز كفاياتنا وطاقتنا التربوية التوجيهية عن إزالته عنهم وتحويلهم عنه لكثرة عددهم؛ سوف يؤدي إلى احتمال سريان عداوة إلى العناصر النظيفة، لِما في العيش الجماعي من المشاهدة التي تؤدي إلى التقليد.

وعلى ذلك فإن جولات الداعية الضرورية بين الجماهير العامة مثلما تؤدي إلى تربيته عمليًا وإلى إغناء الدعوة بالعناصر الجديدة التي يكشفها؛ فإنها تؤدي أيضًا إلى احتمال تهوين أمر المعصية على قلبه إذا انقطع إليهم انقطاعًا طويلاً لكثرة المعاصي في حياة العامة، فوجب تردده على مجتمع الدعاة الصافي ليرى من مناظر الإيمان ما يضاد مناظر الفسق، ويكون جائلاً بين هذا المجتمع العام، وبين هذا المجتمع الخاص الذي يرقق قلبه أن أضرَّ به الأول، وهذا ما يؤدي بالتالي إلى الحرص على نقاوة هذا المجتمع الخاص ليؤدي مهمته التربوية هذه لكل داعية متجول بين العامة حين يفيء إليه.

والنقاوة لا تحصل إلا باتزان التوسع؛ فكلما كان التوسع السريع يستهلك الطاقة الحاضرة، فإنه يضعف الناتج القديم.

دور التجمُّع في التربية التكميلية:

والداعية الحر، المتفاعل مع التطورات والحاجات اليومية للحركة الإسلامية، يري عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- واقفًا أمامه في كل لحظة، وهو يدعو دعاءه المشهور: (اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر، وعجز الثقة)، فترتعش عضلاته رهبة، ويهفو قلبه رغبة، ويسارع ليتخذ من الإمكانيات التربوية للعمل الجماعي، ما يرضي به ظن أبي حفص الفاروق، فيعكف على توعية الأمين العاجز الساذج، وترقيق قلب ذي الجلادة الشغول المتهاون بأمر بعض الأعمال الإيمانية، ليزداد -بهذا السد للنقص- عدد الثقات الذين يجمعون بين الوعي والجلادة.

وهذا العنصر القوى الأمين هو خير من ينهض بأعباء الدعوة، ولا بد من تكميل صفة الجهاد في المؤمن، وتعميق إيمان المجاهد، كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) [الأنفال: 75].

قال ابن تيمية: "عقد الله سبحانه الموالاة بين المهاجرين والأنصار، وبين من آمن من بعدهم وهاجر إلى يوم القيامة: والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والجهاد باق إلى يوم القيامة. فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان، إذ كان كثير من النفوس اللينة يميل إلى هجر السيئات دون الجهاد، والنفوس القوية: قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات. وإنما عقد الله الموالاة لمن جمع بين الوصفين، وهم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين آمنوا به إيمانًا صادقًا) [اقتضاء الصراط المستقيم ص49].

وتمكين كل داعية من الجمع بين الوصفين، وتمكين القضية الإسلامية من استثمار حسنات الطائفتين، مهمتان أساسيتان لتربيتنا الحركية.

فللأول، صاحب الإيمان، القاعد، أو صاحب الوعي ذي القلب القاسي: بما تتيحه التربية من تكميل نقصه على يد من سبقه من الدعاة.

وللقضية الإسلامية: بما يكون من تنسيق جهود الطائفتين بنوع تكامل وتعادل، وجمعها، وتخطيط صرفها لتؤدي فائدتها مجتمعة مركزة.

ليس من الجهد ما يهدر، ولكن النجاح قد يتأخر:

وتضيق الأرض بمتحمسة الدعاة حين نلح في بيات اتزان التوسع في وقت طال فيه المسير، ويرون أن هناك فشلاً يصيب الدعوة إن تخلت عن سباق العدد.

ولا ننكر أن أخطاء الماضي قد حرمت الدعوة في أماكن متعددة من العالم الإسلامي من فرص توسع وانبثاث مأمون في محيط مستعد لتقبل الكلمة، وأن أحزاب الضلال قد استغلت برود دعاة الإسلام فتقدمت بمراحل عليهم، ولكن الخطأ لا يستدرك بمثله، وتقييم فشل الدعوة ونجاحها في حقبة معينة لا يعتمد على إحصاء من استطاعت نقلهم من محيط الجاهلية إلى صفوفها، ذلك أن الدعوة طالما كانت سببًا في هداية آلاف من الشباب وعصمتهم من الفجور والزيغ وإن لم يدخلوا صفوفها؛ لأسباب مختلفة، وهذا في ميزان الإسلام عظيم. وطالما كانت الدعوة كالواحة في وسط الصحراء الموحشة المقفرة حين تأوي إليها جموع المسافرين فينعمون بظلها ومائها، ويأنسون بأهلها. وكثير عدد أولئك الشباب الذين احتضنتهم الدعوة في مراهقتهم، واجتازت بهم فترة الشباب بسلام، ورفلوا في ظلها، وأنسوا بأهلها، وإن أقعدهم الترغيب والترهيب عن مواصلة السير معها.

وكم نقلت الدعوة شاكًّا إلى اليقين، ومؤمنًا جاهلاً إلى العلم، وهذا في الميزان عظيم.

وكم أوضحت الدعوة من شبهة، وردت من تهمة، وأشادت بمناقب مظلوم، وكل ذلك في الميزان عظيم.

وإذن، فإننا يجب ألا ننظر بالمنظار القاتم الذي يولد اليأس في نفوس العاملين، فإن الدعوة لم تفشل، وينتظر من عمل فيها أجر مدخر كبير -إن شاء الله- مثلما ينتظرهم جني ثمار كثيرة زرعوا بذورها بالأمس.

إن أناسًا كثيرين -بتأثير عمل الدعاة الماضي والحاضر- تحتدم في نفوسهم معاني الإيمان والجاهلية، وهم الآن في صراع نفسي داخلي عنيف غير منظور، أيؤمنون ويقرون بما يقول دعاة الإسلام أم يبقون على ما هم عليه؟! وهؤلاء مصيرهم إلى الإيمان حتمًا حين يتضح الحق أمامهم اتضاحًا كافيًا، في حادثة تهزهم هزًا، وتخضهم خضًا، فيتمحضون، وينخرق حجاب الران على القلب، فيصل إليه النور. تمامًا كالإسلام المفاجئ المأثور عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم-؛ كعمر حين دنا من الصفا، فسمع أخته تتلو القرآن، فصفا، أو حمزة حين رجع من الصيد، فسمع كلام المؤامرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فآمن وكسر القيد.

هل يقال إن كل أسباب إيمانهم جاءتهم في لحظة واحدة؟!

كلا؛ فإن معاني الإيمان كانت تحتدم في نفوسهم، وكان هناك صراع نفسي ظل يتنامى حتى فاض سيل الخير في تلك اللحظة.

ولئن حرصنا اليوم على عمق التربية، والاقتصار على الصفوة، واتزان التوسع، فلتغطية حاجة جحافل أهل الاحتدام هؤلاء يكون هذا الحرص، وإنهم لفي سير إلينا، وعما قريب يكون الوصول، والحادثة الهازَّة الخاضَّة خبيئة عند الله، يرحم الله بها الصابرين، ومن لا يؤمن بمثلها فهو بحاجة إلى نظر في السيرة والتاريخ جديد..

وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين..


[ تم التعديل: الخميس، 13 شباط 2025، 2:14 ]
 
صورة mohamad issa
بواسطة الجمعـة، 25 تشرين الأول 2024، 3:54 - mohamad issa
أي شخص بالعالم

المسألة التربوية

د. محمد احمد الراشد

https://www.aljamaa.net/posts/%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b3%d8%a3%d9%84%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%b1%d8%a8%d9%88%d9%8a%d8%a9

هذه المواعظ في فقه الدعوة وصفة الداعية يراد لها أن تكون زادا للعاملين ، ونزهة لهم يستريحون فيها من عناء الطريق ، ويتخذون منها الأنيس الرفيق ، فمن ثم وصفت بأنها رياض المؤمنين .ولكنها تميزت بسمة رئيسية وطابع واضح في الأمانة أدت إلى الإكثار من استلال فئة الدعاة من بين أسطر كتب التراث وبحوث المعاصرين من الدعاة وأشعارهم ، وجعل هذه الاستلالات أساساً لمحاولة اجتهادية تكميلية ، نسأل الله خلالها السلامة ، نكمل فيها نقص مباحث السابقين ، ونشرح ما أجملوه وأبهموه .

 

ولأن شطرا كبيرا من هذه الاستلالات يمثل أسطرا خفية منسية أرجعناها بطول التفتيش والتنقيب إلى ميدان التداول والمدارسة فإن عملنا كان كالإحياء لها.

 

ومن ثم فإن أصدق الأوصاف لعملنا هذا أن يوصف بأنه (إحياء فقه الدعوة) من الآن فصاعداُ . ويشاء الله أن تكون هذه المقالة حاوية لنقول موغلة في القدم ، ومن كتب بعضها نادر ، ليتضح معنى الإحياء الذي قصدناه.

 

عيسى عليه السلام قدوة المربين

 

لاشك أن الداعية يجب عليه أن يحرص في التجميع على العنصر الصافي الذي رعاه الله تعالى منذ طفولته ورباه وعصمه وأبعده عن الشهوات والرعونات والفتن. ولكن نجاح العملية التربوية في التجريب الإسلامي دل على أن أكثر من يفسق تجد بذرة الإيمان كامنة فيه ، ويمكنك إصلاحه ببيان طريق التوبة له .

 

وبذلك كان إصلاح الفساق من قواعد الدعوة الإسلامية وأصولها ، وبات الداعية الذي ينزوي لندرة المعادن الصافية معابا .بل بذلك بات الجانب الإصلاحي في العلميات التربوية في الدعوة الإسلامية شطرا مهماً فيها من بعد شطر التربية التكميلية التي تتولى تنقية العناصر الصافية وتوعيتها وتكميل ما ينقصها من فنون العمل أو صفات الإيمان العالية .ومع أن تاريخ هذه التربية الإسلامية الإصلاحية يرتقي إلى النبوات الأولى ، إلا أن عيسى عليه السلام هو الذي شهر بها وصار قدوة المربين .فمما يتداوله أهل المواعظ : ( أن يحيى وعيسى عليهما السلام كانا يصطحبان في السياحة ، فإذا بلغا قرية أو مدينة يقول عيسى : دلوني على أفجر رجل في هذه المدينة وأطغاه.

 

ويقول يحيى : دلوني على أبر رجل وأتقاه . فيقول يحيى لعيسى : يا ابن خالة ، ما لك لا تنزل على الأبرار والأتقياء ؟ فيقول : إنما أنا طبيب أعالج أهل البلوى ، وأوداي المرضى). ولا نقول للداعية اليوم أن يضيع وقته وجهده في التفتيش عن أفجر الرجال وأطغاهم ليصلحهم ، فإن في الناس بقية خير واضحة بقرب وصولنا أن جعلناها ديدننا ، وطغاة الرجال وفجارهم تصلحهم رهبة الشرع فيما بعد ، ولكن نقول للداعية اليوم أنه طبيب وأن عليه أن لا ينسى مهمته هذه .

 

أنت طبيب أيها الداعية يراد منك أن تعالج بلوى الناس من هذا الإخلاد إلى الأرض، ومن هذه الفلسفات ، والتجزيات الباطلة ، والتردي في عبادة الدينار .

 

أدي واجبك وفتش عن المرضى في بقية الخير هذه . إنها طائشة مختلطة مخلطة ، لم تسلم السلامة الكاملة ، ولم تسرف على نفسها ، وفي إصلاحها وترتيبها أمل استئناف الحياة الإسلامية . لا تطل المكث عند الأتقياء من إخوانك كما كان يفعل يحيى ، وإنما يكفيك معهم مجلس يسير يديم حبك لهم واتعاظك بمظهرهم وسمتهم .

 

أصرف وقتك مع المرضى معالجاً ومصلحاً .ومنهم هذه الناشئة المريضة .

 

هناك ناشئة من ذراري المسلمين بريئة كل البراءة، ويمكن أن تتحمل رحلة العودة إلى الإسلام ، لكنها مريضة ، أمرضتها مناهج الدراسة العلمانية التي تتستر بتدريس حصص الدين ، وأمرضتها طوائف المدرسين الذين لا تحكم عملية اختيارهم قواعد صحيحة ،وأمرضتها مناهج التلفزيون ، وصور الصحف وغيرها.

 

وعـي القدماء لنظرية التربيـة

 

وحين قل لنا في بعض مصادر فقه الدعوة أن نظرية التربية ترتكز على استغلال إمكانية تأثر النفس الإنسانية بالمسموع والمنظور ظننا أن ذلك مما اقتبس من أبحاث التربية الغربية الحديثة ، ولكن تنقيبنا عن فقه الدعوة الذي نحييه كشف عن وعي القدماء من علماء المسلمين ، وكما رأينا أقوال وسير الفقهاء الأوائل التي تتكون منها الأصول القديمة لنظرية المجتمع الحركي والعمل الجماعي ، فإننا نرى أيضاً القول الواضح لهم في نظرية التربية .

 

يقول الزاهد الثقة أبو عثمان الحيري النيسابوري: ( فعل من حكيم في ألف رجل أنفع من موعظة ألف رجل ، وإنما هي مصادفات القلوب من حيث صفاء القلوب عندما يطرقها واردات الغيوب من المسموعات والمنظورات ، فإذا اتفقت قويت ، إذا اختلفت وضادت ضعفت ، وسقطت عنهم رؤية التمييز، فلا يتغيرون ، ولكن ربما تجد لهم أذكارهم بما يسمعون ، وتصفو لهم المشاهدات وقتا بعد وقت ، وذلك زيادة صفاء تجدد لهم عند سماع الحكمة ) وهو هنا يشرح نظرية التربية بأسلوب ذلك العصر واصطلاحاته الصوفية المبهمة ، ولكن في قوله إشارة واضحة إلى هبة ربانية يمنحها كل صادق مستقيم ، يسمعه فيها ما هو صالح ، حقيقة أو مجازا ، ليطيب بصره.

 

ولكن إن منح الله هذه الهبة ، فإن المربي عندنا ، في التربية الإسلامية ، يمنح الرفق بتلميذه ، ويسمعه ويريه الطيب ليطيب ، ومن تم كان الرفق أساس التربية .

 

لا تظهر الاسـتاذية

 

والرفق يقود الى التدرج معهم ، وتحمل أخطائهم وعيوبهم، والمربي لا يكثر من الأوامر ومظهر الصرامة ، فإن التلميذ ينفر ، ويحس بذلك كما قال سعيد بن تركان: ( صحبت أنا وأخي علي يعقوب بن الوليد بعد صحبة الجنيد ، فما عظم في قولبنا أحد ولا تجاوز أحد الجنيد ، لأنه كان يؤدبنا تأديب شفقة ، والآخرون يؤدبونا تأديب رياضة وإظهار أستاذية.) فليس عندنا ميدان إظهار أستاذية . كلا أيها الداعية . بل أخوة وعطف ولطف وحنان . وإن النفوس حساسة فاحذر .

 

لا تضجر من بطء سير ، ولا تيأس من إصلاح ذي العيوب ، بل افتح لتلاميذك القلب الواسع ، وأطل لهم الصبر ، وتدرج في التهذيب.

 

إن المربي الذي يميل صبره بسرعة ولا يصمد أمام تسويف التلميذ لا يسمى مربيا.كذلك من ناحية أخرى ، فإن تأثيرات المسموعات الذي إشار إليه أبو عثمان الحيري يوجب على المربي أن يحسب لكلماته التي ينطقها أكثر من حساب ، وأن يضمن تأثيرها على من يسمعها ، فإن رجح أنه التأثير الحسن أمضاها ،وإن خاف التأثير السيء توقف وتهيب ، ثم يزيد حسن كلامه بحسن منظر أفعاله وتصرفاته.

 

إن الكثير من الدعاة وإن كانت مستوياتهم حسنة ومعادنهم قوية ، فإنهم في أثناء غفلة من أنفسهم ، أو في حالات الإرهاق الذهني والبدني ، يلينون فيتأثرون بما هو ضعيف من كلام الدعاة الآخرين وتصرفاتهم ، فيلقدونه ، أو العكس ، يجدون منه الضجر الذي يزين لهم العمل مع هذا الداعية ، أو ترك العمل كله في شبه احتجاج، فكان من اللازم أن يتورع كل داعية في كلامه وأفعاله ، لئلا يقلده أو يضجر منه غيره ، فإن العيش الجماعي ما يساعد على هذا التقليد ، وإن الإرهاق ما يساعد على هذا الضجر.

 

إنما هو ترغيب وترهيب

 

ومن تمام مهارة المربي في إسباغ رفقه على تلاميذه أن يمهر في ترغيبهم وترهيبم، فإن في الترغيب نوع رفق ظاهر، وليس هو الترهيب بأقل ، فإن الترهيب لا يكون إلا من شفقة على التلميذ وخوف أن يصل إلى المصير الرهيب.

 

وأما الترغيب بالجنة وبكل خلق حسن يؤدي إليها ، والترهيب من النار ومن كل خلق سوء يوقع فيها ، فهو الترغيب والترهيب في صورته العادية التي يسبق إليها الذهن ، وقد أكثر الله ورسوله من مخاطبة الناس بذلك.

 

ولكن وجه آخر فيه نوع من خفاء أشار إليه الفقهاء القدماء من الترغيب والترهيب ، وهو أسلوب الترهيب من التقصير بذكر النموذج الإيماني ، واستمداد ترغيب بذكر نماذج الانحراف البالغة السوء التي لابد أن يكون المخاطب أحسن حالا منها.

 

وكيفية ذلك أن يقلد المربي القرآن ، فيعرض صورا نموذجية عالية من أفعال الخير الإيمانية ، كي يقيس التلميذ نفسه بها دائماً ، فيتضح له ما هو فيه من التقصير ، فترهبه المنزلة الواطئة المتأخرة ، فيشمر للارتقاء ويعرض المربي صورا من الإفراط في السوء والشر والغفلة وتحكيم الهوى وتفضيل حظوظ النفس ليشعر التلميذ إذ يربأ بنفسه عن مثلها أنه على بقية من خير ، فتأخذه عزة إيمانية ترغبه في رحمة الله . وبهذا التردد بين الرغبة والرهبة تدوم استقامته ، ويدوم تمييزه لموضعه من رضى الله سبحانه وسخطه ، بحسب البعد والقرب من أحد الطرفين، كي لا يسكن الى حالة هي مظنة الخوف لقربها من الطرف المذموم ، أو مظنة الرجاء لقربها من الطرف المحمود ، تربية حكيم خبير.

 

وقد روي في هذا المعنى عن أبي بكر الصديق في وصيته لعمر بن الخطاب عند موته حين قال له :” ألم تر أنه نزلت آية الرخاء مع آية الشدة ، وآية الشدة مع آية الرخاء ، ليكون المؤمن راغبا راهبا ، فلا يرغب رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له ، ولا يرهب رهبة يلقي فيها بيده إلى التهلكة . أو لم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيئ أعمالهم ، لانه رد عليهم ما كان لهم من حسن ، فإذا ذكرتهم قلت :إني أخشى أن أكون منهم ، وذكر أهل الجنة بأحسن أعمالهم لأنه تجاوز لهم عما كان لهم من سيء ، فإذا ذكرتهم قلت : إني مقصر ، أين عملي من أعمالهم ؟ “. هذا ما نقل ، وهو معنى ما تقدم ، فإن صح فذاك ، وإلا فالمعنى صحيح يشهد له الاستقراء .

 

وقد روي : ” أولم تر يا عمر أن الله ذكر أهل النار بسيء أعمالهم لأنه رد عليهم ما كان لهم من حسن ، فيقول قائل : من أين أدرك درجتهم ؟ فيجتهد ” . والمعنى على هذه الرواية أيضاً يتنزل على المساق المذكور ، فإذا كان الأخيتين المنصوتين ، في محل مسكون عنه لفظا ، منبه عليه تحت نظر العقل ، ليأخذ كل على حسب اجتهاده ودقة نظره ، ويقع التوازن بحسب القرب من أحد الطرفين والبعد عن الآخر )فهذه الطريقة وجه ثاني للتخويف والترهيب بذكر آيات النار وأخلاق الكافرين والمنافقين ، ووجه ثان للتشويق والترغيب بذكر آيات الجنة وأخلاق المؤمنين . ويتضمن هذا الوجه الثاني كما رأينا استمداد نوع رهبة من التقصير وحياء عند ذكر أوصاف المؤمنين ، ونوع رجاء وشعور بالعزة عند ذكر أوصاوف الكفر والنفاق . وواضح أن هذا الأسلوب إنما يتبع مع من أسرف على نفسه وضمرت معاني الإيمان فيه . وهذا الوجه الثاني يعرف أهل التربية مناسبته لمن هم جدد في أول الطريق أيضاً ، إذا ربما ينسيهم الترهيب في الوجه الأول سعة رحمة الله الرحمن الرحيم خاف ذنوبه ، واعتراء اليأس ، وانغمس كلية في الآثام .فإذا كبا الناشيء ، فعليك أن تترفق معه ، وتبين له سبل التوبة ، وأن الله أفرح بتوبته من فرح من أضل ناقته في فلاة وعليها شرابه وطعامه ، ثم وجدها لشدة فرحه ، وجعل يقول في إظهار شكره لله : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، كما في الحديث الصحيح عند مسلم .

 

أوليات التربية التكاملية

 

وحين تدفع بأخيك التلميذ الراتب الراهب إلي العمل التجميعي ، فاحرص على أن تصوغه الصياغة التي تراعي التكامل والانسجام وتوفير جميع الصفات التي يحتاجها كداعية . وفرله قسطاً إيمانياً كافياً ، وعلماً شرعياً أوليا ، وفقا لفنون الدعوة وقضايا العمل الجماعي ومبادئ الطاعة والأمور العاصمة من الفتن، ودراسة الناس وكيفية تخير العناصر الصالحة ، وإلا فإن الصياغة الجزئية المضطربة الناقصة توقعه في أخطاء ، أخطاء اختياره للعناصر،وأخطاء في تبليغها الدعوة حسب أهميتها ، وأخطاء في معاملته اليومية لهم. فإن لم تسارع إلى صياغته أنت فإنه سيصوغ نفسه باجتهاده . فإذا كانت فيه بذرة إيمانية : نراه يترك العمليات التجميعية وينصرف إلى نفسه معلما ومهذبا في انزواء ، فيكثر من صلاته وحفظه القرآن ، يلزم المساجد ، ويعكف على الكتب يقرأ منها الكثير ويستزيد، حتى يصطبغ بهذه الصبغة التعبدية العلمية الانزوائية، ويستأنس بها ، ولا يعود يحاول دعوة آخرين .

 

وفي المجتمعات التي يكثر فيها الزهد المبتدع وذكر الفناء ووحدة الوجود، أو يكثر فيها التناظر الفقهي الخشن. نرى مثل هذا الناشيء يجد له في الزهد المتطرف المبتدع أو التناظر باللسان السليط مادة لذيذة ينفس فيها ما في صدره ، فيسير مع دعاته مع بقاء حبه للدعاة الذين ربوه ، وبقي مأسورا إلى جانبين ، وقد تخطفه النزعة التطرفية . وقريب من هذا كثرة الولع بالرياضة وأخبارها ، أو صرف طاقته في الأسفار .وكل هذه الانحرافات قابلة لأن تستغل من قبل أصحاب الفتن استغلال واسعاً ، الفتن بمعناها العام لا فتن الخروج على سياسة الدعوة فحسب ، فيخرج في فتنة باسم الزهد يستغلها رجل خداع يعرف طرق الاستدراج ، أو فتن التناحر المذهبي الفقهي ، أو فتن الدنيا بمعناها الواسع وحصر الهمة في حيازة دار أو مركز مرموق ، وكم من جليس للدعاة يتقرب إلى الله بحثهم على الإسراع بحيازة دار والتملق للوصول إلى منصب وينسيهم الدعوة، ويظن نفسه ناصحاً أميناً .

 

ومن ها هنا وجب على المربي الداعية أن يبدأ بتكوين وعي شامل وعميق لدى تلميذه يعصمه من هذه المزالق والأخطاء .

 

إنه وعي : شامل وعميق .

 

وعي عقائدي : يستقيم به على دروب السلف وعقيدة من يحرص على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وجماعة الآخذين بها من الأوائل ويعصمه محدثات الأمور وبدع الاعتزال والتجهم والإرجاء ووحدة الوجود.

 

وعي فقهي : يحمله على تتبع النص الصحيح أنى وجده ، من غير ما سلاطة لسان على المقلدين ولا خشونة

 

ووعي سياسي : يبعده عن الكمين الذي ينصبه له العدو ، ويبصر به لوائح الخطر وإشاراته من على بعد، ويدله على أماكن الفرص وأوقاتها ليستغلها .

 

وأهم شعب هذا الوعي للناشيء : الوعي العقائدي، إذ يتضح في مجال العقيدة أثر نوع البداية واستمرارها حتى النهاية أكثر من اتضاحه في المجال الفقهي والسياسي .

 

إنه لابد للداعية المربي من أن يبذر في قلوب إخوانه التوحيد الصافي البعيد عن البدع وتأويل النصوص الواضحة ، ولن يلتذ مسلم بعبادة أبدا ما دام توحيده مكدرا.

 

وما أحلى أن نتذكر في هذا المجال قول أبي الطيب المتنبي رحمه الله من أن :

 

( صفاء العبادات لا ينال إلا بصفاء التوحيد) فإذا ذاق أخوك طعم التوحيد : انخلع عن دنياه ، وحلق في أعلى الأجواء ، وذلك ـ كما يقول ابن القيم في مدارج السالكين ـ: ( إن القلب إذا خلى من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها ، من مال أو رياسة ، وتعلق بالآخرة ، والقدوم على الله عز وجل ، فذلك أول فتوحه وتباشير فجره ، عند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة ما يرضي به ربه منه ، فيفعله ويتقرب به إليه ، وما يسخطه منه ، فيتجنبه ، وهذا هو صدق عنوان إرادته ، فيفتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات.

 

ثم يفتح له باب حلاوة العبادة بحيث يكاد يشبع منه . ثم يفتح له شهود عظمة الله المتكلم به وجلاله ، وكمال نعوته وصفاته وحكمته ، ومعاني خطابه ، بحيث يستغرق قلبه في ذلك حتى يغيب فيه ، ويحس بقلبه قد دخل في عالم آخر غير ما في الناس فيه .)

 

فأول ما يلح فيه المربي أن يغرس في تلميذه معنى التوحيد الصافي وأن يثبت في قلبه دلائل وجود الله ، الدلائل الفطرية غير المصطنعة الفلسفية ، وأن يأخذه في سياحة ممتعة إلى الآيات المكية التي تدعو إلى هذا التأمل والتفكر ، وفي طائفة من الأحاديث الصحيحة التي تؤيد معاني هذه الآيات . ثم يعلمه أسماء الله الحسنى وكيفية التعبد بها ، وصفات الله تعالى تقتضيها هذه الأسماء ، فيدل على ما يجب أن يكون بقلبه من شواهد لكل اسم من هذه الأسماء ، كالذي يقتضيه اسم العلي من تواضع المؤمن ، وما يقتضه اسم الجبار والمنتقم والعظيم من عدل المؤمن وخوفه من الظلم والغرور والخيلاء .

 

فإذا دعا الجديد الناشئ وشارك في العملية التجميعية بهذه الصياغة المتينة فإنه سينقلب بإذن الله من نصر إلى نصر ، ومن توفيق إلى توفيق ، ونجاح إلى نجاح ، رابط الجأش لا يذهب بصبره نكوص الناكثين ، لا يحار جوابا أمام من خدعه المتطرفون ، آسرا للمقابل بظرفه ودماثته وفتوته وحلمه وجميل خلقه ومعاملته ، فهو الداعية الموفق الذي إذا مر نفذ، وإذا عزم تقدم ، وإذا بشر نجح ، وإذا استجيب له ربى ، وإذا ربى عصم ، يغدو في الدعوة ، ويروح إلى الدعوة .

 

إن هذه التربية التي تقول بوجوبها لمن نريد أن ندفعه إلى مباشرة دعوة مباشرة دعوة الناس هي التربية التي ربى الله تعالى عليها الأنبياء حين أراد لهم أن يصلحوا أمر الناس ، كما يقول عبد القادر الكيلاني ، وقبل ذلك التبليغ كانوا في تفكر وتحنث ، أي في فترة تربوية .

 

يقول رحمه اللهحزينلايزال العارف أخرس اللسان بين يدي الحق عز وجل حتى يرده على مصالح الخلق ، فإذا رده إليهم رفع الكلال عن لسانه والعجمة عنه .

 

موسى عليه السلام لما كان يرعى الغنم كان في لسانه لكنة وعجلة وعجمة ووقفة ، فلما أراد الحق عز وجل أن يرده ألهمه حتى قال :” واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي”. كأنه يقول : لما كنت في البرية في رعي الغنم لم أحتج إلى هذا ، والآن قد جاء شغلي مع الخلق والكلام لهم ، فأعني بذهاب الكلال من لساني .)

 

يوسف عليه السلام لما خرج من الجب والسجن وصبر على تلك الشوائد وتمكن وصار الكل تحت يده قال لإخوته:” ائتوني باهلكم أجمعين “، لما جاءه الغنى والملك وذهب القبض وجاء البسط . قبل ذلك كان أخرس في الجب والسجن ، فلما خرج جاءت الفصاحة .)


[ تم التعديل: الجمعـة، 25 تشرين الأول 2024، 4:24 ]
 
صورة System Administrator
بواسطة الإثنين، 13 أيار 2024، 2:36 - System Administrator
أي شخص بالعالم
philo-quran

كم يغيظني أن يكلّف الأنبياء بصناعات الحديد، وأن يطالبوا بتجويد آلات الحرب وإتقانها، 

وأن يتعلّم الصالحون الرمي وإصابة الهدف، 

وأن يكونوا خبراء في بناء الحصون وتشييد الاستحكامات العسكرية....الخ

بينما صالحونا لا يدرون عن ذلك شيئاً.

إن إصابة الأهداف من الأرض إلى الأرض،أو من الأرض إلي الجو، أو من البحر إلى البر ..إلخ

تتطلب علوماً كثيرة من طبقات الأرض، إلى طبقات الجو، ومن الهندسة إلى الطبيعة والكيمياء،والفلك.

أكان داوود يعبث عند ما قيل له

«أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ»؟

أكان ذو القرنين يعبث عندما أوقد الأفران وصهر المعادن وأقام خطّا من الحصون المنيعة؟  

أكان محمّد الفاتح يعبث عندما سيّر السفن على اليابسة وأكمل الحصار على خصومه؟

إنّ الذين يحسبون علوم الكون والحياة علوماً طفيليّة على دين الله ويظنّون العبادة حمل السبح وتحريك حبّاتها بكلمات مأثورة ناس عميان لا وزن لهم.

مستضعفون صغار لا حلوم لهم

                 فلا تغرّنّك أيد تحمل السبحا

لو تعقل الأرض ودّت أنّها صفرت

                منهم فلم ير فيها ناظر شبحا

ولن يبصر المسلمون الطريق، إلا إذا عادوا إلى الفلسفة القرآنية العملية. وفقهوا قوله تعالى:

«لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»

 



الشيخ محمدالغزالي.

 المحاور الخمسة للقرآن الكريم؛ ص 59


[ تم التعديل: الإثنين، 20 أيار 2024، 4:01 ]
 
صورة System Administrator
بواسطة السبت، 27 نيسـان 2024، 2:40 - System Administrator
أي شخص بالعالم
family


في سورة البقرة حديث طويل عن قضايا الأسرة، ولما كانت السورة في أوائل المصحف الشريف، فقد يُظن أنها أول ما قيل في هذا الموضوع! وهذا خطأ فإن نحو ثلثي القرآن الكريم نزل قبل هذه السورة المباركة، وتضمّن تمهيدات لابد من استصحابها عند التأمل في أحكام الأسرة هنا. 

من ذلك المساواة الإنسانية بين نوعي الذكر والأنثى، التي وردت في سورة النحل «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» النحل: 97.

ومن الطريف أن هذا الحكم قرره مؤمن آل فرعون وهو ينصح جبابرة عصره «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ» غافر: 40.

وجاء في سورة الروم عند الحديث عن آيات الله في ملكوته «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً» الروم 21. وأكد ذلك في سورة النحل وهو يسرد نعم الله على عباده «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً» النحل: 72.

إن فهم وضع المرأة، ومكانة الأسرة سبق الحديث عنهما، فلا غرابة في أن تحتوي سورة البقرة تفاصيل لما قد يقع من نزاع، أو يجد من أحداث ينبغي تعرّف حكم الله فيها..، لا غرابة إذن في ذكر الإيلاء، والطلاق، والخلع، والولادة، والرضاع.. إلخ.

وشرائع الأسرة يستحيل أن تنجح بعيداً عن ضوابط الخلق والإيمان والتقوى، وقد لفتت النظر إلى أن  المسلم قد يراجع نفسه بعد الطلاق، فلا يمضي في طريق البتّ وقطع الحبال، بل يجب أن يعمل عقل أن يعمل عقله، جاء ذلك في ثمانية توجيهات، تلاحقت في أثناء تقرير هذا الحكم المهم، وقد جاءت كلها في أعقاب قوله تعالى: «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» البقرة: 231.

ماذا يصنع دين أكثر من ذلك في لزوم التروّي والأدب وصون الحياة الحاضر والمستقبل؟ ومع ذلك فقد بلغ الهوس في إيقاع الطلاق حد الجنون فقد يعلّق رجل طلاق امرأته على شرب سيجارة، ثم يدخن وينهدم البيت، وتتمزق الأسرة شظايا، ويُتهم الإسلام بالحيف على المرأة!!

وقد أشرت في مقال آخر إلى كلمة «حدود الله» التي تكررت ست مرات في آيتين من آيات الطلاق، ختمتا بقوله تعالى: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» البقرة: 230!!

وأغلب المسلمين لا يعي هذه الكلمة، ولا يدري كم تكررت، ولا لما تكررت؟؟ ويبدو أنهم قوم لا يعلمون!!

وقد ظُلمت المرأة في بيئات كثيرة، وغريب أن يُرّدّ الحيف عليها إلى تعاليم الإسلام التي أنصفتها!!

لقد قال الله تعالى: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» البقرة: 228. والآية ظاهرة في تبادل الحقوق والواجبات، وفي تقرير درجة رياسة الرجل، مع إتمام هذا التبادل، لكنني لاحظت في بعض الأوساط الهابطة، أن المرأة عليها وليس لها، وأنها تعامل بامتهان وغلظة، وأنها قد تأكل الفضلات في البيت، وتذهب أطايب الطعام إلى غيرها..

كيف تنسب هذه الجلافة إلى دين من الأديان بله الإسلام؟

وأعرف أن هناك نسوة شريرات يملأن البيوت متاعب، والحل لهذه المشكلات كلها لا يقوم به رجال الشرطة، بل يعتمد على حسن التربية والتزام التقوى، والوقوف عند حدود الله..

إنه لابد من علم واسع وخلق كريم وتربية أصيلة، وأهل لهم عدل وإنصاف، وأمة قوّامة بأمر الله..

وقد رأيت أن أجهزة التبشير ترقب العالم الإسلامي بمكر، وتحاول اختراقه من ثغرات تتوهمها أو تجدها، وقد رأت أن أعداداً من المسلمين تهين النساء، وتستكثر عليهن ما آتاهن الشارع الحكيم فسعت إلى تنصير المرأة وإشاعة أن المراد إنقاذها من جَوْر الإسلام!!

وتوجد الآن جمهرة من المثقفات وقعن في هذا الشّرَك، السبب الأول بعض المتحدثين في الدين من الجاهلين والتافهين..

كنت في أحد المجالس فقلت: إن حق الخلع للمرأة يكافئ حق الطلاق للرجل.. وإذا وجدت امرأة لا تطيق زوجها بغضاً لأسباب تبديها أو تخفيها، وعرضت أن تعطيه ما ساق إليها من مهر، فما المانع أن يجيبها القضاء إلى ما تبغي ...؟

قال أحد السامعين: للقاضي حق التطبيق للضرر! قلت: هذا شيء آخر إنها لم تشْك ضرراً وإنما تذكر أنها تكره البقاء مع رجلها لأمر ما، وتريد تعويضه عن كل ما أنفق عليها، فلماذا نبقيها معه؟ قال: هذا لا يجوز ما دام الرجل راغباً عن الطلاق! قلت: بل هو جائز، وللقاضي أن يتصرف بالصلح أو بالخلع.

وعلمت بعد أن الرجل يتهمني بما أنا منه براء، لأنه غير فقيه في الكتاب والسنة!! وويل للعالم من الجهال..

الاتجاه عند بعض المتدينين إنكار أن تكون للمرأة شخصية متميزة، مع أن القرآن قرر أن امرأة نوح غير نوح، وأن امرأة فرعون غير فرعون، وأن لكلٍ مسلكه وسيرته «لا تزر وزرة وزر أخرى..».

وعندما تلد المرأة فإن المغانم والمغارم قسمة بين الزوجين، «لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ» البقرة: 233. وعند بلوغ الفطام يتشاوران معاً في ذلك «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا». البقرة: 233.

ومن الشرائع التي نسيت في كثير من مجتمعاتنا شريعة المتعة! إن الطلاق يتم بعد معركة يكتنفها الغدر، والإعراض والجهود، وتحترق فيها المشاعر النبيلة، وليس هذا ديناً، فقد يكون أبغض الحلال إلى الله الطلاق، وإذا وقع لأمر ما وجب كسر حدته بعطية حسنة، تطفىء الغضب وتطفئ اللجاجة في الخصام «وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)». البقرة..

إنني أهيب بالمسلمين أن يراجعوا كتابهم وسنة نبيهم في تعرف أحكام الأسرة، وأشرف الأساليب لبقاء البيت المسلم يؤدي رسالته التربوية والاجتماعية، وأن يدرسوا ما يقع في أرجاء العالم من هذا القبيل، فليس من المعقول أن تمنع المرأة عندنا من ركوب سيارة، على حين يعطيها العالم حق اقتياد أمة والسهر على مصالحها. 


 كتاب "نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم" الشيخ الغزالي؛ من صفحة 20 حتى 22

[ تم التعديل: الإثنين، 20 أيار 2024، 4:05 ]