Blog entry by mohamad issa
تركيز لا تكاثر ..التوازن الدعوي في تحقيق الكم والكيف
محمد احمد الراشد
كان في تدقيق الانتقاء ما يعصم من قواصم العفوية. وتَكْمُن العاصمة الثانية في تجميع متناسب مع جهود المربين، بحيث يمكن إسماعهم جميعًا الكلام الموجَّه، بتركيز مؤثر، ومنع التأثيرات الخارجية عنهم.
ولا شك في صعوبة هذا الحل الثاني.
ويقصد بالصعوبة: صعوبة (السيطرة) على الرغبات النفسية الأصيلة في كل إنسان في حب (الثراء) في كل شيء مما أشار إليها القرآن الكريم بإجمال في قوله تعالى: (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ) [التكاثر: 1].
فالإنسان يحب الثراء الكمي العددي، في المال، والعلوم، والبنين، والأنصار، وفي كل شيء، وهي نزعة أو غريزة لا يمكن السيطرة عليها إلا بالتربية العميقة، وخطورة إهمالها تتأتى من أن إشباع الغريزة يؤدي إلى حصول (النشوة) في الإنسان، والنشوة حالة من حالات النفس الإنسانية تؤثر على العقل تأثيرًا سلبيًا، فتجعله في ركود.
إن النشوة ضد الخوف، وفي النفس الإنسانية يقترن الاطمئنان مع النشوة، والحذر مع الخوف.
والمعروف أن العقل أقصى ما يمكن تحفزًا واشتغالاً وشحذًا في حالة الحذر.
ومن هنا تصاحب النشوة اندفاعات غير مدروسة، يشترك فيها الجميع، القادة وتلاميذهم، لأن الإحساس بالثراء يولد الاطمئنان وإيحاءات الضمان.
معارك النفس:
إن هذا التقرير يؤكد ما قلناه من صعوبة الحركة التي تخوضها الدعوة، فإن ميدان المعركة هو النفس الإنسانية بكل تعقيداتها ومتناقضاتها.
أنت لا تتعامل مع أحجار صلدة، ولا مع أصحاب طهر ملائكي.
أنت تعيش وتتعامل مع نفس إنسانية، فيها الغرائز، غرائز حب البقاء، وحب التكاثر والثراء، وإشباع الشهوات الجنسية، وفيها النزعات: نزعات الثأر، والحذر، والدفاع عن عقيدتها، وحب شيوعها.
والمجتمع الذي أمامك هو مجموعة هذه الغرائز والنزعات والميول والرغبات، فإن لم تعرف المداخل والأبواب التي تدخل منها إلى هذا المجموع من الغرائز والنزعات المسمى بـ(المجتمع) فان الفشل يصيبك حتما، وإذا غالطت نفسك وتجاهلت هذه الغرائز والنزعات والميول والرغبات، فلن ضير وجودها شيء، وأنت تضار.
ستبقى هي لأنها وُجدت -بإذن الله- لتبقى، أما أنت فستزول وتخونك حساباتك وتقديراتك لأنك خالفت الفطرة.
إن النفس الإنسانية هي ميدان كل هذه الانقلابات الاجتماعية والسياسية الكثيرة المتواصلة التي يحدثنا عنها التاريخ القديم والحديث.
اندفاع وراء إشباع البطون، أو إشباع الشهوة الجنسية، أو طلب الترف.. اندفاع ثأر ممن سلبها أرضها أو نساءها.. اندفاع وراء إشباع عقيدة اعتقدتها، أو محاربة من يخالف هذه العقيدة، بالمفهوم الواسع للعقيدة، من مثل وقيم، حقة أو باطلة.
إنها اندفاعات مادية ومعنوية، قد تجتمع وقد تنفرد. هؤلاء هم البشر.
إن بعضهم قد وجد في نفسه المقدرة على توجيه الآخرين نحو قسم من هذه التصرفات التي تساعد عليها الغرائز والفطر، فسمينا عمله هذا (تربية).
إن معارك السياسة والحروب صورة لمعارك النفس.
ألهاكم التكاثر بالأمس، فاتزنوا:
وإذن فإن معركتنا معركة تربوية، أي أنها تقوى وتشتد كلما تعمقت التربية وأتقن المربي عمله، وتخبو جذوتها كلما فترت التربية وكانت سطحية.
أي إن الجهود التربوية لعدد محدود من القادة المربين إذا تركزت على التلاميذ فإنها تكون أعمق تأثيرًا فيهم كلما قل عددهم، بتناسب طردي، وتفتر ويقل تأثيرها كلما زاد عددهم.
ومع هبوط كمية التأثير يحصل الاندفاع العفوي غير الهادف، ثم القاصمة والمصرع.
وإذن فإن من مصالح معركتنا ألا يندفع الصنف القيادي المتولي لعملية التربية في تجميع عدد من التلاميذ أكبر مما تكفي له جهودهم التربوية.
وهذا هو الحل الثاني للوقاية من مصارع العفوية يمليه تحليل الظاهرة التربوية.
ولقد شهد تاريخ الحركة الإسلامية بالأمس القريب تكاثرًا بالعدد على حساب النوعية أرهق وألهى، وأجبر دعاة اليوم على الاتعاظ، وما اتزان التوسع إلا وصية الغد. نقول: إنها وصية الغد؛ لما رأينا من نسيانها.
والحقيقة إن أهمية الصف الداخلي المتين لا تنحصر في معطيات صفته التنظيمية وسهولة استغلال طاقاته المنسقة، بل في تحقيقه (المجتمع التربوي) الذي يحتضن الجديد المتربي ويريه زيادة المناظر الإسلامية ويحجب عنه رؤية الجاهلية والجاهليين وسماع أقوالهم، فيبعد عن التأثر بتربية أخرى غير إسلامية، ولمثل هذا أوجب الغزالي -رحمه الله- المسارعة إلى كبت الفسق وحجبه لئلا يؤثر منظره في نفوس المسلمين، وقال: "إن مشاهدة الفسق تهون أمر المعصية على القلب، وتبطل نفرة القلب عنها". [إحياء علوم الدين للغزالي (2/172)].
وهذا يعني أيضًا أن بقاء بعض الفسق بمعناه الشرعي عالقًا بالأشخاص الذين نجمعهم، لِعجز كفاياتنا وطاقتنا التربوية التوجيهية عن إزالته عنهم وتحويلهم عنه لكثرة عددهم؛ سوف يؤدي إلى احتمال سريان عداوة إلى العناصر النظيفة، لِما في العيش الجماعي من المشاهدة التي تؤدي إلى التقليد.
وعلى ذلك فإن جولات الداعية الضرورية بين الجماهير العامة مثلما تؤدي إلى تربيته عمليًا وإلى إغناء الدعوة بالعناصر الجديدة التي يكشفها؛ فإنها تؤدي أيضًا إلى احتمال تهوين أمر المعصية على قلبه إذا انقطع إليهم انقطاعًا طويلاً لكثرة المعاصي في حياة العامة، فوجب تردده على مجتمع الدعاة الصافي ليرى من مناظر الإيمان ما يضاد مناظر الفسق، ويكون جائلاً بين هذا المجتمع العام، وبين هذا المجتمع الخاص الذي يرقق قلبه أن أضرَّ به الأول، وهذا ما يؤدي بالتالي إلى الحرص على نقاوة هذا المجتمع الخاص ليؤدي مهمته التربوية هذه لكل داعية متجول بين العامة حين يفيء إليه.
والنقاوة لا تحصل إلا باتزان التوسع؛ فكلما كان التوسع السريع يستهلك الطاقة الحاضرة، فإنه يضعف الناتج القديم.
دور التجمُّع في التربية التكميلية:
والداعية الحر، المتفاعل مع التطورات والحاجات اليومية للحركة الإسلامية، يري عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- واقفًا أمامه في كل لحظة، وهو يدعو دعاءه المشهور: (اللهم إني أعوذ بك من جلد الفاجر، وعجز الثقة)، فترتعش عضلاته رهبة، ويهفو قلبه رغبة، ويسارع ليتخذ من الإمكانيات التربوية للعمل الجماعي، ما يرضي به ظن أبي حفص الفاروق، فيعكف على توعية الأمين العاجز الساذج، وترقيق قلب ذي الجلادة الشغول المتهاون بأمر بعض الأعمال الإيمانية، ليزداد -بهذا السد للنقص- عدد الثقات الذين يجمعون بين الوعي والجلادة.
وهذا العنصر القوى الأمين هو خير من ينهض بأعباء الدعوة، ولا بد من تكميل صفة الجهاد في المؤمن، وتعميق إيمان المجاهد، كما قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) [الأنفال: 75].
قال ابن تيمية: "عقد الله سبحانه الموالاة بين المهاجرين والأنصار، وبين من آمن من بعدهم وهاجر إلى يوم القيامة: والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه، والجهاد باق إلى يوم القيامة. فكل شخص يمكن أن يقوم به هذان الوصفان، إذ كان كثير من النفوس اللينة يميل إلى هجر السيئات دون الجهاد، والنفوس القوية: قد تميل إلى الجهاد دون هجر السيئات. وإنما عقد الله الموالاة لمن جمع بين الوصفين، وهم أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- الذين آمنوا به إيمانًا صادقًا) [اقتضاء الصراط المستقيم ص49].
وتمكين كل داعية من الجمع بين الوصفين، وتمكين القضية الإسلامية من استثمار حسنات الطائفتين، مهمتان أساسيتان لتربيتنا الحركية.
فللأول، صاحب الإيمان، القاعد، أو صاحب الوعي ذي القلب القاسي: بما تتيحه التربية من تكميل نقصه على يد من سبقه من الدعاة.
وللقضية الإسلامية: بما يكون من تنسيق جهود الطائفتين بنوع تكامل وتعادل، وجمعها، وتخطيط صرفها لتؤدي فائدتها مجتمعة مركزة.
ليس من الجهد ما يهدر، ولكن النجاح قد يتأخر:
وتضيق الأرض بمتحمسة الدعاة حين نلح في بيات اتزان التوسع في وقت طال فيه المسير، ويرون أن هناك فشلاً يصيب الدعوة إن تخلت عن سباق العدد.
ولا ننكر أن أخطاء الماضي قد حرمت الدعوة في أماكن متعددة من العالم الإسلامي من فرص توسع وانبثاث مأمون في محيط مستعد لتقبل الكلمة، وأن أحزاب الضلال قد استغلت برود دعاة الإسلام فتقدمت بمراحل عليهم، ولكن الخطأ لا يستدرك بمثله، وتقييم فشل الدعوة ونجاحها في حقبة معينة لا يعتمد على إحصاء من استطاعت نقلهم من محيط الجاهلية إلى صفوفها، ذلك أن الدعوة طالما كانت سببًا في هداية آلاف من الشباب وعصمتهم من الفجور والزيغ وإن لم يدخلوا صفوفها؛ لأسباب مختلفة، وهذا في ميزان الإسلام عظيم. وطالما كانت الدعوة كالواحة في وسط الصحراء الموحشة المقفرة حين تأوي إليها جموع المسافرين فينعمون بظلها ومائها، ويأنسون بأهلها. وكثير عدد أولئك الشباب الذين احتضنتهم الدعوة في مراهقتهم، واجتازت بهم فترة الشباب بسلام، ورفلوا في ظلها، وأنسوا بأهلها، وإن أقعدهم الترغيب والترهيب عن مواصلة السير معها.
وكم نقلت الدعوة شاكًّا إلى اليقين، ومؤمنًا جاهلاً إلى العلم، وهذا في الميزان عظيم.
وكم أوضحت الدعوة من شبهة، وردت من تهمة، وأشادت بمناقب مظلوم، وكل ذلك في الميزان عظيم.
وإذن، فإننا يجب ألا ننظر بالمنظار القاتم الذي يولد اليأس في نفوس العاملين، فإن الدعوة لم تفشل، وينتظر من عمل فيها أجر مدخر كبير -إن شاء الله- مثلما ينتظرهم جني ثمار كثيرة زرعوا بذورها بالأمس.
إن أناسًا كثيرين -بتأثير عمل الدعاة الماضي والحاضر- تحتدم في نفوسهم معاني الإيمان والجاهلية، وهم الآن في صراع نفسي داخلي عنيف غير منظور، أيؤمنون ويقرون بما يقول دعاة الإسلام أم يبقون على ما هم عليه؟! وهؤلاء مصيرهم إلى الإيمان حتمًا حين يتضح الحق أمامهم اتضاحًا كافيًا، في حادثة تهزهم هزًا، وتخضهم خضًا، فيتمحضون، وينخرق حجاب الران على القلب، فيصل إليه النور. تمامًا كالإسلام المفاجئ المأثور عن بعض الصحابة -رضي الله عنهم-؛ كعمر حين دنا من الصفا، فسمع أخته تتلو القرآن، فصفا، أو حمزة حين رجع من الصيد، فسمع كلام المؤامرة على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فآمن وكسر القيد.
هل يقال إن كل أسباب إيمانهم جاءتهم في لحظة واحدة؟!
كلا؛ فإن معاني الإيمان كانت تحتدم في نفوسهم، وكان هناك صراع نفسي ظل يتنامى حتى فاض سيل الخير في تلك اللحظة.
ولئن حرصنا اليوم على عمق التربية، والاقتصار على الصفوة، واتزان التوسع، فلتغطية حاجة جحافل أهل الاحتدام هؤلاء يكون هذا الحرص، وإنهم لفي سير إلينا، وعما قريب يكون الوصول، والحادثة الهازَّة الخاضَّة خبيئة عند الله، يرحم الله بها الصابرين، ومن لا يؤمن بمثلها فهو بحاجة إلى نظر في السيرة والتاريخ جديد..
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين..