المشاركات المكتوبة بواسطة System Administrator
في سورة البقرة حديث طويل عن قضايا الأسرة، ولما كانت السورة في أوائل المصحف الشريف، فقد يُظن أنها أول ما قيل في هذا الموضوع! وهذا خطأ فإن نحو ثلثي القرآن الكريم نزل قبل هذه السورة المباركة، وتضمّن تمهيدات لابد من استصحابها عند التأمل في أحكام الأسرة
هنا.
من ذلك المساواة الإنسانية بين نوعي الذكر والأنثى، التي وردت في سورة النحل «مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» النحل: 97.
ومن الطريف أن هذا الحكم قرره مؤمن آل فرعون وهو ينصح جبابرة عصره «مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ» غافر: 40.
وجاء في سورة الروم عند الحديث عن آيات الله في ملكوته «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً» الروم 21. وأكد ذلك في سورة النحل وهو يسرد نعم الله على عباده «وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً» النحل: 72.
إن فهم وضع المرأة، ومكانة الأسرة سبق الحديث عنهما، فلا غرابة في أن تحتوي سورة البقرة تفاصيل لما قد يقع من نزاع، أو يجد من أحداث ينبغي تعرّف حكم الله فيها..، لا غرابة إذن في ذكر الإيلاء، والطلاق، والخلع، والولادة، والرضاع.. إلخ.
وشرائع الأسرة يستحيل أن تنجح بعيداً عن ضوابط الخلق والإيمان والتقوى، وقد لفتت النظر إلى أن المسلم قد يراجع نفسه بعد الطلاق، فلا يمضي في طريق البتّ وقطع الحبال، بل يجب أن يعمل عقل أن يعمل عقله، جاء ذلك في ثمانية توجيهات، تلاحقت في أثناء تقرير هذا الحكم المهم، وقد جاءت كلها في أعقاب قوله تعالى: «وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ۚ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُوا ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» البقرة: 231.
ماذا يصنع دين أكثر من ذلك في لزوم التروّي والأدب وصون الحياة الحاضر والمستقبل؟ ومع ذلك فقد بلغ الهوس في إيقاع الطلاق حد الجنون فقد يعلّق رجل طلاق امرأته على شرب سيجارة، ثم يدخن وينهدم البيت، وتتمزق الأسرة شظايا، ويُتهم الإسلام بالحيف على المرأة!!
وقد أشرت في مقال آخر إلى كلمة «حدود الله» التي تكررت ست مرات في آيتين من آيات الطلاق، ختمتا بقوله تعالى: «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» البقرة: 230!!
وأغلب المسلمين لا يعي هذه الكلمة، ولا يدري كم تكررت، ولا لما تكررت؟؟ ويبدو أنهم قوم لا يعلمون!!
وقد ظُلمت المرأة في بيئات كثيرة، وغريب أن يُرّدّ الحيف عليها إلى تعاليم الإسلام التي أنصفتها!!
لقد قال الله تعالى: «وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ» البقرة: 228. والآية ظاهرة في تبادل الحقوق والواجبات، وفي تقرير درجة رياسة الرجل، مع إتمام هذا التبادل، لكنني لاحظت في بعض الأوساط الهابطة، أن المرأة عليها وليس لها، وأنها تعامل بامتهان وغلظة، وأنها قد تأكل الفضلات في البيت، وتذهب أطايب الطعام إلى غيرها..
كيف تنسب هذه الجلافة إلى دين من الأديان بله الإسلام؟
وأعرف أن هناك نسوة شريرات يملأن البيوت متاعب، والحل لهذه المشكلات كلها لا يقوم به رجال الشرطة، بل يعتمد على حسن التربية والتزام التقوى، والوقوف عند حدود الله..
إنه لابد من علم واسع وخلق كريم وتربية أصيلة، وأهل لهم عدل وإنصاف، وأمة قوّامة بأمر الله..
وقد رأيت أن أجهزة التبشير ترقب العالم الإسلامي بمكر، وتحاول اختراقه من ثغرات تتوهمها أو تجدها، وقد رأت أن أعداداً من المسلمين تهين النساء، وتستكثر عليهن ما آتاهن الشارع الحكيم فسعت إلى تنصير المرأة وإشاعة أن المراد إنقاذها من جَوْر الإسلام!!
وتوجد الآن جمهرة من المثقفات وقعن في هذا الشّرَك، السبب الأول بعض المتحدثين في الدين من الجاهلين والتافهين..
كنت في أحد المجالس فقلت: إن حق الخلع للمرأة يكافئ حق الطلاق للرجل.. وإذا وجدت امرأة لا تطيق زوجها بغضاً لأسباب تبديها أو تخفيها، وعرضت أن تعطيه ما ساق إليها من مهر، فما المانع أن يجيبها القضاء إلى ما تبغي ...؟
قال أحد السامعين: للقاضي حق التطبيق للضرر! قلت: هذا شيء آخر إنها لم تشْك ضرراً وإنما تذكر أنها تكره البقاء مع رجلها لأمر ما، وتريد تعويضه عن كل ما أنفق عليها، فلماذا نبقيها معه؟ قال: هذا لا يجوز ما دام الرجل راغباً عن الطلاق! قلت: بل هو جائز، وللقاضي أن يتصرف بالصلح أو بالخلع.
وعلمت بعد أن الرجل يتهمني بما أنا منه براء، لأنه غير فقيه في الكتاب والسنة!! وويل للعالم من الجهال..
الاتجاه عند بعض المتدينين إنكار أن تكون للمرأة شخصية متميزة، مع أن القرآن قرر أن امرأة نوح غير نوح، وأن امرأة فرعون غير فرعون، وأن لكلٍ مسلكه وسيرته «لا تزر وزرة وزر أخرى..».
وعندما تلد المرأة فإن المغانم والمغارم قسمة بين الزوجين، «لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ» البقرة: 233. وعند بلوغ الفطام يتشاوران معاً في ذلك «فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا». البقرة: 233.
ومن الشرائع التي نسيت في كثير من مجتمعاتنا شريعة المتعة! إن الطلاق يتم بعد معركة يكتنفها الغدر، والإعراض والجهود، وتحترق فيها المشاعر النبيلة، وليس هذا ديناً، فقد يكون أبغض الحلال إلى الله الطلاق، وإذا وقع لأمر ما وجب كسر حدته بعطية حسنة، تطفىء الغضب وتطفئ اللجاجة في الخصام «وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)». البقرة..
إنني أهيب بالمسلمين أن يراجعوا كتابهم وسنة نبيهم في تعرف أحكام الأسرة، وأشرف الأساليب لبقاء البيت المسلم يؤدي رسالته التربوية والاجتماعية، وأن يدرسوا ما يقع في أرجاء العالم من هذا القبيل، فليس من المعقول أن تمنع المرأة عندنا من ركوب سيارة، على حين يعطيها العالم حق اقتياد أمة والسهر على مصالحها.
كتاب "نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم" الشيخ الغزالي؛ من صفحة 20 حتى 22